فصل: سورة البروج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة البروج:

.تفسير الآيات (1- 22):

{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}
{ذات البروج}، قال ابن عباس والجمهور: هي المنازل التي عرفتها العرب، وهي اثنا عشر على ما قسمته، وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يوماً. وقال عكرمة والحسن ومجاهد: هي القصور. وقال الحسن ومجاهد أيضاً: هي النجوم. وقيل: عظام الكواكب، سميت بروجاً لظهورها. وقيل: هي أبواب السماء؛ وقد تقدم ذكر البروج في سورة الحجر. {واليوم الموعود}: هو يوم القيامة، أي الموعود به. {وشاهد ومشهود}: هذان منكران، وينبغي حملهما على العموم لقوله: {علمت نفس ما أحضرت} وإن كان اللفظ لا يقتضيه، لكن المعنى يقتضيه، إذ لا يقسم بنكرة ولا يدري من هي. فإذا لوحظ فيها معنى العموم، اندرج فيها المعرفة فحسن القسم. وكذا ينبغي أن يحمل ما جاء من هذا النوع نكرة، كقوله: {والطور وكتاب مسطور} ولأنه إذا حمل {وكتاب مسطور} على العموم دخل فيه معنيان: الكتب الإلهية، كالتوراة والإنجيل والقرآن، فيحسن إذ ذاك القسم به.
ولما ذكر واليوم الموعود، وهو يوم القيامة باتفاق، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ناسب أن يكون المقسم به من يشهد في ذلك اليوم ومن يشهد عليه. إن كان ذلك من الشهادة، وإن كان من الحضور، فالشاهد: الخلائق الحاضرون للحساب، والمشهود: اليوم، كما قال تعالى: {ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} كان موعوداً به فصار مشهوداً، وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيينهما.
وعن ابن عباس: الشاهد: الله تعالى؛ وعنه وعن الحسن بن علي وعكرمة: الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار: آدم عليه السلام وذريته؛ وعن ابن عباس أيضاً والحسن: الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة، وفي كل قوم منها المشهود يوم القيامة؛ وعن علي وابن عباس وأبي هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة: وشاهد يوم الجمعة؛ وعن ابن المسيب: يوم التروية؛ وعن علي أيضاً: يوم القيامة؛ وعن النخعي: يوم الأضحى. ومشهود في هذه الأقوال يوم عرفة؛ وعن ابن عمر: يوم الجمعة، ومشهود يوم النحر؛ وعن جابر: يوم الجمعة، ومشهود الناس؛ وعن محمد بن كعب: ابن آدم، ومشهود الله تعالى؛ وعن ابن جبير: عكس هذا؛ وعن أبي مالك: عيسى، ومشهود أمته، وعن علي: يوم عرفة، ومشهود يوم النحر؛ وعن الترمذي: الحكيم الحفظة، ومشهود عليهم: الناس؛ وعن عبد العزيز بن يحيى: محمد صلى الله عليه وسلم، ومشهود عليه أمته؛ وعنه: الأنبياء، ومشهود أممهم؛ وعن ابن جبير ومقاتل الجوارح يوم القيامة، ومشهود أصحابها. وقيل: هما يوم الاثنين ويوم الجمعة. وقيل: الملائكة المتعاقبون وقرآن الفجر. وقيل: النجم والليل والنهار. وقيل: الله والملائكة وأولو العلم، ومشهود به الوحدانية، و{إن الدين عند الله الإسلام} وقيل: مخلوقاته تعالى، ومشهود به وحدانيته.
وقيل: هما الحجر الأسود والحجج. وقيل: الليالي والأيام وبنو آدم. وقيل: الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذه أقوال سبعة وعشرون لكل منها متمسك، وللصوفية أقوال غير هذه. والظاهر ما قلناه أولاً، وجواب القسم قيل محذوف، فقيل: لتبعثن ونحوه. وقال الزمخشري: يدل عليه {قتل أصحاب الأخدود}. وقيل: الجواب مذكور فقيل: {إن الذين فتنوا}. وقال المبرد: {إن بطش ربك لشديد}. وقيل: قتل وهذا نختاره وحذفت اللام أي لقتل، وحسن حذفها كما حسن في قوله: {والشمس وضحاها} ثم قال: {قد أفلح من زكاها} أي لقد أفلح من زكاها، ويكون الجواب دليلاً على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله، وتنبيهاً لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم، على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين. وإذا كان {قتل} جواباً للقسم، فهي جملة خبرية، وقيل: دعاء، فكون الجواب غيرها. وقرأ الحسن وابن مقسم بالتشديد، والجمهور بالتخفيف.
وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالاً فوق العشرة، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا؛ ومضنها أن ناساً من الكفار خدوا أخدوداً في الأرض وسجروه ناراً وعرضوا المؤمنين عليها، فمن رجع عن دينه تركوه، ومن أصرّ على الإيمان أحرقوه؛ وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين. وقال الربيع وأبو العالية وابن إسحاق: بعث الله على المؤمنين ريحاً فقبضت أرواحهم أو نحو هذا، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود، فعلى هذا يكون القتل حقيقة لا بمعنى اللعن، ويكون خبراً عن ما فعله الله بالكفار والذين أرادوا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم. وقول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دل عليه القصص الذي ذكروه. وقرأ الجمهور: {النار} بالجر، وهو بدل اشتمال، أو بدل كل من كل على تقدير محذوف، أي أخدود النار. وقرأ قوم النار بالرفع. قيل: وعلى معنى قتلهم، ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين، وقتل على حقيقته. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى: الوقود بضم الواو وهو مصدر، والجمهور: بفتحها، وهو ما يوقد به. وقد حكى سيبويه أنه بالفتح أيضاً مصدر كالضم. والظاهر أن الضمير في {إذ هم} عائد على الذين يحرقون المؤمنين، وكذلك في {وهم} على قول الربيع يعود على الكافرين، ويكون هم أيضاً عائداً عليهم، ويكون معنى {على ما يفعلون}: ما يريدون من فعلهم بالمؤمنين. وقيل: أصحاب الأخدود محرق، وتم الكلام عند قوله: {ذات الوقود}، ويكون المراد بقوله: {وهم} قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات، وإذا العامل فيه قتل، أي لعنوا وقعدوا على النار، أو على ما يدنو منها من حافات الأخدود، كما قال الأعشى:
تشب لمقرورين يصطليانها ** وبات على النار الندى والمحلق

{شهود}: يشهد بعضهم لبعض عند الملك، أي لم يفرط فيما أمر به، أو شهود يوم القيامة على ما فعلوا بالمؤمنين، يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم.
وقرأ الجمهور: {نقموا} بفتح القاف؛ وزيد بن عليّ وأبو حيوة وابن أبي عبلة: بكسرها، أي ما عابوا ولا أنكروا الإيمان، كقوله: {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} وكقول قيس الرقيات:
ما نقموا من بني أمية إلا ** أنهم يحلمون أن غضبوا

جعلوا ما هو في غاية الحسن قبيحاً حتى نقموا عليه، كما قال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها ** كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها

وفي المنتخب: إنما قال {إلا أن يؤمنوا}، لأن التعذيب إنما كان واقعاً على الإيمان في المستقبل، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى، فكأنه قال: إلا أن يدعوا على إيمانهم. انتهى. وذكر الأوصاف التي يستحق بها تعالى أن يؤمن به، وهو كونه تعالى عزيزاً غالباً قادراً يخشى عقابه، حميداً منعماً يجب له الحمد على نعمته، له ملك السموات والأرض وكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقريراً لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغي.
{والله على كل شيء شهيد}: وعيد لهم، أي إنه علم ما فعلوا فهو يجازيهم. والظاهر أن {الذين فتنوا} عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذيب أو أذى، وأن لهم عذابين: عذاباً لكفرهم، وعذاباً لفتنتهم. وقال الزمخشري: يجوز أن يريد بالذين فتنوا أصحاب الأخدود خاصة، وبالذين آمنوا المطروحين في الأخدود، ومعنى فتنوهم: عذبوهم بالنار وأحرقوهم، {فلهم} في الآخرة {عذاب جهنم} بكفرهم، {ولهم عذاب الحريق}: وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق، أو لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا لما روى أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، انتهى. وينبغي أن لا يجوز هذا الذي جوّزه، لأن في الآية {ثم لم يتوبوا}، وأولئك المحرقون لم ينقل لنا أن أحداً منهم تاب، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر. وقال ابن عطية: {ثم لم يتوبوا} يقوي أن الآيات في قريش، لأن هذا اللفظ في قريش أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم. وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن، انتهى. وكذلك قوله: {إن الذين آمنوا}، المراد به العموم لا المطروحون في النار، والبطش: الأخذ بقوة. {يبدئ ويعيد}، قال ابن زيد والضحاك: يبدئ الخلق بالإنشاء، ويعيده بالحشر. وقال ابن عباس: عام في جميع الأشياء، أي كلّ ما يبدأ وكل ما يعاد. وقال الطبري: يبدئ العذاب ويعيده على الكفار؛ ونحوه عن ابن عباس قال: تأكلهم النار حتى يصيروا فحماً، ثم يعيدهم خلقاً جديداً. وقرئ: يبدأ من بدأ ثلاثياً، حكاه أبو زيد.
ولما ذكر شدّة بطشه، ذكر كونه، غفوراً ساتراً لذنوب عباده، ودوداً لطيفاً بهم محسناً إليهم، وهاتان صفتا فعل. والظاهر أن الودود مبالغة في الوادّ؛ وعن ابن عباس: المتودد إلى عباده بالمغفرة. وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد:
وأركب في الروع عريانة ** ذلول الجماع لقاحاً ودودا

أي: لا ولد لها تحن إليه. وقيل: الودود فعول بمعنى مفعول، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون. {ذو العرش}: خص العرش بإضافة نفسه تشريفاً للعرش وتنبيهاً على أنه أعظم المخلوقات. وقرأ الجمهور: {ذو} بالواو؛ وابن عامر في رواية: ذي بالياء، صفة لربك. وقال القفال: {ذو العرش}: ذو الملك والسلطان. ويجوز أن يراد بالعرش: السرير العالي، ويكون خلق سريراً في سمائه في غاية العظمة، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه، انتهى. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان: {المجيد} بخفض الدال، صفة للعرش، ومجادته: عظمه وعلوّه ومقداره وحسن صورته وتركيبه، فإنه قيل: العرش أحسن الأجسام صورة وتركيباً. ومن قرأ: ذي العرش بالياء، جاز أن يكون المجيد بالخفض صفة لذي، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخباراً عن هو، فيكون {فعال} خبراً. ويجوز أن يكون {الودود ذو العرش} صفتين للغفور، و{فعال} خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة، والمعنى: أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه.
{هل أتاك حديث الجنود}: تقرير لحال الكفرة، أي قد أتاك حديثهم، وما جرى لهم مع أنبيائهم، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم. والجنود: الجموع المعدّة للقتال. {فرعون وثمود}: بدل من {الجنود}، وكأنه على حذف مضاف، أي جنود فرعون، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن. وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدّمة، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضاً. ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله:
ألم تر أن الله أهلك تبعاً ** وأهلك لقمان بن عاد وعاديا

وأهلك ذا القرنين من قبل ما نوى ** وفرعون جباراً طغى والنجاشيا

وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم. {بل الذين كفروا}: أي من قومك، {في تكذيب}: حسداً لك، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم. {والله من ورائهم محيط}: أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطاً به، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعاً، والمعنى: دنو هلاكهم.
ولما ذكر أنهم في تكذيب، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم، وكان صلى الله عليه وسلم قد كذبوه وكذبوا ما جاء به وهو القرآن، أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا فقال: {بل هو قرآن}: أي بل الذي كذبوا به قرآن مجيد، ومجادته: شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه، وإخباره بالمغيبات وغير ذلك في محاسنه.
وقرأ الجمهور: {قرآن مجيد}: موصوف وصفة. وقرأ ابن السميفع: {قرآن مجيد} بالإضافة، قال ابن خالويه: سمعت ابن الأنباري يقول معناه: بل هو قرآن رب مجيد، كما قال الشاعر:
ولكن الغني رب غفور

معناه: ولكن الغنى غنى رب غفور، انتهى. وعلى هذا أخرجه الزمخشري. وقال ابن عطية: وقرأ اليماني: قرآن مجيد على الإضافة، وأن يكون الله تعالى هو المجيد، انتهى. ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف لصفته؛ فيكون مدلوله ومدلول التنوين ورفع مجيد واحداً، وهذا أولى لتوافق القراءتين. وقرأ الجمهور: {في لوح} بفتح اللام، {محفوظ} بالخفض صفة للوح، واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء. وقرأ ابن يعمر وابن السميفع: بضم اللام. قال ابن خالويه: اللوح: الهواء. وقال الزمخشري: يعني اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح المحفوظ من وصول الشياطين إليه، انتهى. وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه: محفوظ بالرفع صفة لقرآن، كما قال تعالى: {وإنا له لحافظون} أي هو محفوظ في القلوب، لا يلحقه خطأ ولا تبديل.

.سورة الطارق:

.تفسير الآيات (1- 17):

{وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)}
{والسماء}: هي المعروفة، قاله الجمهور. وقيل: السماء هنا المطر، {والطارق}: هو الآتي ليلاً، أي يظهر بالليل. وقيل: لأنه يطرق الجني، أي يصكه، من طرقت الباب إذا ضربته ليفتح لك. أتى بالطارق مقسماً به، وهي صفة مشتركة بين النجم الثاقب وغيره. ثم فسره بقوله: {النجم الثاقب}، إظهاراً لفخامة ما أقسم به لما علم فيه من عجيب القدرة ولطيف الحكمة، وتنبيهاً على ذلك. كما قال تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} وقال ابن عطية: معنى الآية: والسماء وجميع ما يطرق فيه من الأمور والمخلوقات. ثم ذكر بعد ذلك، على جهة التنبيه، أجل الطارقات قدراً وهو النجم الثاقب، وكأنه قال: وما أدراك ما الطارق حتى الطارق، انتهى. فعلى هذا يكون {النجم الثاقب} بعضاً مما دل عليه {والطارق}، إذ هو اسم جنس يراد به جميع الطوارق. وعلى قول غيره: يراد به واحد مفسر بالنجم الثاقب. والنجم الثاقب عند ابن عباس: الجدي، وعند ابن زيد: زحل. وقال هو أيضاً وغيره: الثريا، وهو الذي تطلق عليه العرب اسم النجم. وقال علي: نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. وقال الحسن: هو اسم جنس لأنها كلها ثواقب، أي ظاهرة الضوء. وقيل: المراد جنس النجوم التي يرمى بها ويرجم. والثاقب، قيل: المضيء؛ يقال: ثقب يثقب ثقوباً وثقابة: أضاء، أي يثقب الظلام بضوئه. وقيل: المرتفع العالي، ولذلك قيل هو زحل لأنه أرقها مكاناً. وقال الفراء: ثقب الطائر ارتفع وعلا.
وقرأ الجمهور: إن خفيفة، كل رفعاً لما خفيفة، فهي عند البصريين مخففة من الثقيلة، كل مبتدأ واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة، وما زائدة، وحافظ خبر المبتدأ، وعليها متعلق به. وعند الكوفيين: إن نافية، واللام بمعنى إلا، وما زائدة، وكل حافظ مبتدأ وخبر؛ والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو عمرو ونافع بخلاف عنهما: لما مشددة وهي بمعنى إلا، لغة مشهورة في هذيل وغيرهم. تقول العرب: أقسمت عليك لما فعلت كذا: أي إلا فعلت، قاله الأخفش. فعلى هذه القراءة يتعين أن تكون نافية، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ. وحكى هارون أنه قرئ: إن بالتشديد، كل بالنصب، فاللام هي الداخلة في خبر إن، وما زائدة، وحافظ خبر إن، وجواب القسم هو ما دخلت عليه إن، سواء كانت المخففة أو المشددة أو النافية، لأن كلاًّ منها يتلقى به القسم؛ فتلقيه بالمشددة مشهور، وبالمخففة
{تالله إن كدت لتردين} وبالنافية {ولئن زالتا إن أمسكهما} وقيل: جواب القسم {إنه على رجعه لقادر}، وما بينهما اعتراض، والظاهر عموم كل نفس. وقال ابن سيرين وقتادة وغيرهما: {إن كل نفس} مكلفة، {عليها حافظ}: يحصي أعمالها ويعدها للجزاء عليها، فيكون في الآية وعيد وزاجر وما بعد ذلك يدل عليه. وقيل: حفظة من الله يذبون عنها، ولو وكل المرء إلى نفسه لاختطفته الغير والشياطين. وقال الكلبي والفراء: حافظ من الله يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير. وقيل: الحافظ: العقل يرشده إلى مصالحه ويكفه عن مضاره. وقيل: حافظ مهيمن ورقيب عليه، وهو الله تعالى.
ولما ذكر أن كل نفس عليها حافظ، أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل لذلك ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته. و{مم خلق}: استفهام، ومن متعلقة بخلق، والجملة في موضع نصب ب فلينظر، وهي معلقة. وجواب الاستفهام ما بعده وهو: {خلق من ماء دافق}، وهو مني الرجل والمرأة لما امتزجا في الرحم واتحدا عبر عنهما بماء، وهو مفرد، ودافق قيل: هو بمعنى مدفوق، وهي قراءة زيد بن عليّ. وعند الخليل وسيبويه: هو على النسب، كلابن وتامر، أي ذي دفق. وعن ابن عباس: بمعنى دافق لزج، وكأنه أطلق عليه وصفه لا أنه موضوع في اللغة لذلك، والدفق: الصب، فعله متعد. وقال ابن عطية: والدفق: دفع الماء بعضه ببعض، تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضاً. ويصح أن يكون الماء دافقاً، لأن بعضه يدفع بعضاً، فمنه دافق ومنه مدفوق، انتهى. وركب قوله هذا على تدفق، وتدفق لازم دفقته فتدفق، نحو: كسرته فتكسر، ودفق ليس في اللغة معناه ما فسر من قوله: والدفق دفع الماء بعضه ببعض، بل المحفوظ أنه الصب. وقرأ الجمهور: {يخرج} مبنياً للفاعل، {من بين الصلب}: بضم الصاد وسكون اللام؛ وابن أبي عبلة وابن مقسم: مبنياً للمفعول، وهما وأهل مكة وعيسى: بضم الصاد واللام؛ واليماني: بفتحهما. قال العجاج:
في صلب مثل العنان المؤدم

وتقدمت اللغات في الصلب في سورة النساء، وإعرابها صالب كما قال العباس:
تنقل من صالب إلى رحم

قال قتادة والحسن: معناه من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائبه. وقال سفيان وقتادة أيضاً: من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وتقدم شرح الترائب في المفردات. وقال ابن عباس: موضع القلادة؛ وعن ابن جبير: هي أضلاع الرجل التي أسفل الصلب. وقيل: ما بين المنكبين والصدر. وقيل: هي التراقي؛ وعن معمر: هي عصارة القلب ومنه يكون الولد. ونقل مكي عن ابن عباس أن الترائب أطراف المرء، رجلاه ويداه وعيناه. قال ابن عطية: وفي هذه الأحوال تحكم على اللغة، انتهى.
{إنه}: الضمير يعود على الخالق الدال عليه خلق.
{على رجعه}، قال ابن عباس وقتادة: الضمير في رجعه عائد على الإنسان، أي على رده حياً بعد موته، أي من أنشأه أولاً قادر على بعثه يوم القيامة لا يعجزه شيء. وقال الضحاك: على رده من الكبر إلى الشباب. وقال عكرمة ومجاهد: الضمير عائد على الماء، أي على رد الماء في الإحليل أو في الصلب. وعلى هذا القول وقول الضحاك يكون العامل في {يوم تبلى} مضمر تقديره اذكر. وعلى قول ابن عباس، وهو الأظهر، فقال بعض النحاة: العامل ناصر من قوله: {ولا ناصر}، وهذا فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وكذلك ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها على المشهور المنصور. وقال آخرون، ومنهم الزمخشري: العامل رجعه ورد بأن فيه فصلاً بين الموصول ومتعلقه، وهو من تمام الصلة، ولا يجوز. وقال الحذاق من النحاة: العامل فيه مضمر يدل عليه المصدر تقديره: يرجعه يوم تبلى السرائر. قال ابن عطية: وكل هذه الفرق فرت من أن يكون العامل لقادر، لأنه يظهر من ذلك تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده. وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون المعنى لقادر، وذلك أنه قال: {إنه على رجعه لقادر} على الإطلاق أولاً وآخراً وفي كل وقت. ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم على الكفار، لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس إلى حذره والخوف منه، انتهى. {تبلى} قيل: تختبر، وقيل: تعرف وتتصفح وتميز صالحها من فاسدها، و{السرائر}: ما أكنته القلوب من العقائد والنيات، وما أخفته الجوارح من الأعمال، والظاهر عموم السرائر. وفي الحديث: إنها التوحيد والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة، وكان المذكور في الحديث هو أعظم السرائر، وسمع الحسن من ينشد:
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ** سريرة ودّ يوم تبلى السرائر

فقال: ما أغفله عما في السماء والطارق، والبيت للأحوص. ولما كان الامتناع في الدنيا إما بقوة في الإنسان، وإما بناصر خارج عن نفسه، نفى عنه تعالى ما يمتنع به وأتى بمن الدالة على العموم في نفي القوة والناصر. {والسماء}: أقسم ثانياً بالسماء وهي المظلة. قيل: ويحتمل أن يكون السحاب. {ذات الرجع}، قال ابن عباس: الرجع: السحاب فيه المطر. وقال الحسن: ترجع بالرزق كل عام. وقال ابن زيد: الرجع مصدر رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة، تذهب وترجع، وقيل: الرجع: المطر، ومنه قول الهذلي:
أبيض كالرجع رسوب إذا ** ما ناح في محتفل يختلي

يصف سيفاً شبهه بماء المطر في بياضه وصفائه، وسمي رجعاً كما سمي إرباً، قال الشاعر:
ربا شمالاً يأوي لقلتها ** إلا السحاب وإلا الإرب والسبل

تسمية بمصدر آب ورجع.
تزعم العرب أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض إذا أرادوا التفاؤل، وسموه رجعاً وإرباً ليرجع ويؤب. وقيل: لأن الله تعالى يرجعه وقتاً فوقتاً، قالت الخنساء:
كالرجع في الموجنة السارية

وقيل: الرجع: الملائكة، سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد. وقيل: السحاب، والمشهور عند أهل اللغة وقول الجمهور: أن الرجع هو المطر، والصدع: ما تتصدع عنه الأرض من النبات، ويناسب قول من قال: الرجع: المطر. وقال ابن زيد: ذات الانشقاق: النبات. وقال أيضاً: ذات الحرث. وقال مجاهد: الصدع: ما في الأرض من شقاق ولصاب وخندق وتشقق بحرث وغيره، وهي أمور فيها معتبر، وعنه أيضاً: ذات الطرق تصدعها المشاة. وقيل: ذات الأموات لانصداعها عنهم يوم النشور. والضمير في {إنه}، قالوا عائد على القرآن. {فصل} أي فاصل بين الحق والباطل، كما قيل له فرقان. وأقول: ويجوز أن يعود الضمير في {إنه} على الكلام الذي أخبر فيه ببعث الإنسان يوم القيامة، وابتلاء سرائره: أي إن ذلك القول قول جزم مطابق للواقع لا هزل فيه، ويكون الضمير قد عاد على مذكور، وهو الكلام الذي تضمن الأخبار عن البعث، وليس من الأخبار التي فيها هزل بل هو جد كله. {إنهم}: أي الكافرون، {يكيدون}: أي في إبطال أمر الله وإطفاء نور الحق، {وأكيد}: أي أجازيهم على كيدهم، فسمى الجزاء كيداً على سبيل المقابلة، نحو قوله تعالى: {ومكروا ومكر الله} {إنما نحن مستهزءون} {الله يستهزئ بهم} ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {أمهلهم رويداً}: أي انتظر عقوبتهم ولا تستعجل ذلك ثم أكد أمره فقال: {أمهلهم رويداً}: أي إمهالاً لما كرر الأمر توكيداً خالف بين اللفظين، على أن الأول مطلق، وهذا الثاني مقيد بقوله: {رويداً}. وقرأ ابن عباس: مهلهم، بفتح الميم وشدّ الهاء موافقة للفظ الأمر الأول.